2021/1/31 06:40 AM
” العبادة “ في سورة الزمر
تركّز سورة الزّمر على أن تصنع منك عابدا مخلصا لله ، إذ موضوع العبادة هو المحور الرئيسي لها ، وقد جاء الأمر بالعبادة مُقترناً مع الإخلاص في هذه السورة وبذات الألفاظ ، كقوله تعالى: ( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) وقوله أيضا ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)
ولم الإخلاص ؟ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم ( أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) وبدونه تحبط الأعمال ويذهب أجرها ( َلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
والمؤمن يعتزّ بعبادته لله ، ويرفض أن يعبد غيره ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) كما أن الله تعالى يرضى لعباده أن يعبدوه ويشكروه ، ولا يرضى لهم الكفر ( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ )
فليس نعمة أعظم من أن صيّرك الله عبداً له ، ووفّقك لذكره وقد كان – ص – يستفتح بهذا الدعاء في أول يومه حين يستيقظ من نومه : ” الحمد لله الذى ردّ عليّ روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره “. ثم ترسم الأيات صورة للعبادة الخاشعة بين يدي الله يتقلّب فيها المؤمن بين ركوع وسجود ، ورجاء وخوف ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ )
وتلك منزلة راقية ، ودرجة رفيعة لا يبلغها إلا العالمون العارفون ‘ ولا يُوفّق إليها إلا أصحاب العقول والألباب ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) بل إن الله تعالى يصف غير العابدين والذين يدعون إلى عبادة غير الله في هذه السورة بالجاهلين ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ) وما ذاك إلاّ لأنّهم جهلوا قدره وعظمته فلم يعبدوه ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ).
ولا عذر لك أيها المؤمن أن تتنازل عن هذه العبادة أو تفرّط فيها في أي زمان أومكان ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) ، فشُرِع للمسلم أن يترك الأرض التي لا يستطيع أن يقيم شعائر عبادته فيها ويهاجرإلى غيرها ، وكأن العبادة هي الحياة ولا تكون حياة بلا عبادة .
وإن نال عبادتك أيها المسلم تقصيرأو تفريط ،فلا يصيبنّك اليأس أو القنوط، فها هوربك يدعوك بأجمل وأرجى نداء ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) وقد قيل إن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله وكيف لا تكون كذلك وقد جمعت في سطر واحد كل هذه الكلمات ( عبادي – لا تقنطوا – رحمة الله – يغفرالذنوب – الغفور – الرحيم ) فسبحان من هذا كلامه .
وتوجه آيات السورة إلى معنى عظيم وهو الإحسان في العبادة ، والوصول فيها إلى الكمال ، فهو سبحانه يطلب منك أن تكون الأوّل في إسلامك وعبادتك ( وأمرت لأكون أول المسلمين) بل هو تعالى يصف المؤمنين العابدين باتباع أحسن القول ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ )
ويأمرتعالى في السورة أيضا باتباع الأحسن من الأوامر ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ولم الأمر باتباع الأحسن ؟ لأن سورة الزمر تصف القرآن بأنه أحسن الحديث ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) فلتكون الأحسن اتبع الأحسن ، والجزاء من جنس العمل ، والأجر من الله سيكون أيضا بالأحسن ( وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ )
وتنقلك السورة في ثناياها من عبادة إلى أخرى ، فمن عبادة الشكر ( بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) إلى عبادة الرضا واليقين بأنّ الضر والنفع بيد الله ( قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)
ثم عبادة الزهد في الدنيا ، وعدم الاغترار بها ، وتضرب السورة لهذه الدنيا مثلا ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) ذكر ابن كثير في تفسير الأية: أي الذين يتذكّرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا ، تكون خضرة نضرة حسناء ، ثم تعود عجوزا شوهاء ، والشاب يعود شيخا هرِماً كبيرا ضعيفا ، وبعد ذلك كله الموت.
وتسوق السورة الدلائل على استحقاق الله للعبادة فهو خالق السماوات والأرض ومالك أمرها ، ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وقوله ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) والمقاليد هنا هي الخزائن في كثيرٍ من التفاسير
وهو بيده سبحانه الموت والحياة ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة ويجازي العباد على أعمالهم يوم القيامة ( قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وهو سبحانه من ينزّل الرزق ، فيبسطه لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء ( أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )
ولكي تؤتي العبادة ثمارها تذكر السورة آثارها على العابدين الخاشعين ، كانشراح الصدر( أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) ثم لين القلوب (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) وأما غيرهم من الجاحدين فتشمئزّ قلوبهم لذكر الله ( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)
ثم يتحقّق لأولئك العابدين الأمان الداخلي للنفس ، والشعور بالٍطمأنينة وعدم الاضطراب (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ثم حفْظ الله لهم ، وكفايته عنهم كل شر وسوء ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ )
ومن اللافت في السورة تكرار ألفاظ التقوى ومشتقاتها كثيرا إلى ثماني مرّات تقريبا ، إذ هي أبرز صفات العابدين بل هي الصفة الجامعة لخصال الخير فيهم ، ولعلّ هذا سبب تكرارها ومن هذه الآيات ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ( يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ ) ( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) .
وفي السورة صورتان متقابلتان لجزاء العابدين والجاحدين ومصير كل منهم ، فالعابدون المتقون هم الفائزون ( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )
والجاحدون هم الخاسرون ( فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)
وتأتي خواتيم سورة الزمر لتصوّرلك المشهدين ، موكب المتقين العابدين وهم يساقون في شرف وسرورحتى تُفتح لهم أبواب الجنة ، وموكب الكافرين الجاحدين وهم يساقون في خزْيٍ وعارحتى تُفتح لهم أبواب النار ، في ذلك اليوم الذي يتجلى الله فيه بنوره ليحاسب الخلق أجمعين في مشهدٍ مهيبٍ من العظمة والجلال ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وترى الملائكة يعظّمون الربّ – جل وعلا – يصطفّون حول العرش يسبحون بحمد ربهم وهو يقضي بين عباده ( وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
جعلني الله وإياكم من العابدين الفائزين . اللهم آمين
كاتب المقال : محمود خليل السوالقة